بوح الأحد: دروس الانتخابات العامة في المغرب، المشروعية الشعبية بين صدمة …

بوح الأحد: دروس الانتخابات العامة في المغرب، المشروعية الشعبية بين صدمة …

A- A+
  • بوح الأحد: دروس الانتخابات العامة في المغرب، المشروعية الشعبية بين صدمة العدالة والتنمية وانتكاسة الطوابرية، مغرب الأمل ينتصر وأشياء أخرى

    أبو وائل الريفي

  • أسدل الستار أخيرا عن الانتخابات بدون مفاجآت كثيرة، انتخابات أجريت في ظروف استثنائية وكان المنتظر أن يكون لنتائجها نصيب من هذه الاستثنائية التي تمثلت في اتجاه إيجابي ضرب كل التوقعات التي كانت تتنبأ بعدم إقبال المغاربة على صناديق الاقتراع فكان ردهم عكس المتوقع. وبذلك يصدق على هذه الانتخابات أنها كانت استثنائية في ظرفيتها وعادية في دوريتها وجيدة من حيث نسبة الإقبال عليها ومفاجئة نسبيا في نتائجها.
    ربح المغرب رهانات كثيرة من هذه الانتخابات رغم سياقها الوبائي، وأظهر نجاح تنظيمها أن المغرب قوي باستقراره الذي يجعله قادرا على الوفاء بكل التزاماته، ومتمسكا بمؤسساته وباختياره الديمقراطي وبانتصاره لدولة المؤسسات وسيادة الشعب.
    ربح المغرب بتنظيم هذه الانتخابات عشر رهانات يلزم الوقوف عندها بتأن. ربح المغرب أولا رهان الانتظام بما يعنيه من احترام للمقتضيات الدستورية ووفاء لالتزام الدولة بتعزيز الديمقراطية وتحصينها وتثبيتها. وربح المغرب ثانيا رهان المشاركة الشعبية حيث فاق عدد المشاركين كل التوقعات بعد تفوق نسبة المشاركة على كل الانتخابات السابقة التي أجريت في 2011 و2016، و تجاوزت 50 في المائة على المستوى الوطني. وربح المغرب ثالثا رهان الجمع في يوم واحد بين انتخابات محلية وجهوية وتشريعية، ستفرز أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجالس الجماعات والمقاطعات وأعضاء مجالس الجهات. وربح المغرب رابعا رهان حكامة الإدارة الانتخابية بقدرته على تدبير هذه الانتخابات في وضعية وبائية مع توفير كل ضمانات النزاهة الانتخابية كما شهد بذلك فريق الملاحظين المحليين، الذي فاق 4500 ملاحظا، وفريق الملاحظين الدوليين الذي يمثل 19 منظمة بحوالي مائة ملاحظ دولي، والعدد الكبير لوسائل الإعلام الدولية التي غطت هذه الانتخابات، وهو ما جعل المنتظم الدولي يشيد بالتجربة ونجاحها. وربح المغرب خامسا رهان جذب فئات شابة جديدة إلى المشاركة في الانتخابات لشعورهم أنها أفضل طريق لبناء المغرب المتجدد الذي يستجيب لتطلعاتهم، وهذا مؤشر على الأمل الذي ينتاب هذه الشريحة من المغاربة التي تنظر إلى المستقبل ولا تلتفت إلى الماضي الذي يريد البعض البقاء أسيرا له، وهي رسالة لكل الأحزاب للعناية بهذه الفئات لأنها خزان ومنبت حقيقي إن أحسن تأطيرها والتجاوب مع حاجياتها. وربح المغرب سادسا رهان إثبات الارتباط الوثيق لسكان الجنوب بمغربيتهم، حيث كان مرة أخرى هذا الاستحقاق الانتخابي استفتاء تأكيديا لمغربية الصحراء وتجاوبا كبيرا مع الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى ال68 لثورة الملك والشعب الذي أكد فيه جلالته بأن الانتخابات وسيلة لإقامة مؤسسات ذات مصداقية تدافع عن قضايا الوطن وهي السلاح للدفاع عن البلاد في وقت الشدة والأزمات والتهديدات. لقد وصلت الرسالة للمغاربة في جهات الصحراء الثلاثة فكان إقبالهم كثيفا، حيث بلغت هذه النسبة 58,30 في المائة في جهة الداخلة وادي الذهب، و63,76 في المائة في جهة كلميم واد نون و66,94 في المائة في جهة العيون الساقية الحمراء. وبهذا ينضاف هذا الانتصار إلى الانتصارات الأخرى في ملف الوحدة الوطنية بما يؤكد أن هذا الملف طوي نهائيا وبأن مناورات خصوم مغربية الصحراء ليست إلا سكرات الموت الطبيعي لكائن فقد كل مقومات وجوده لأن تقرير المصير يتحقق بأشكال وطرق متعددة على أرض الواقع يوما بعد آخر ولتبق جبهة الوهم ومساندوها حبيسي طروحاتهم القديمة. وربح المغرب تاسعا رهان تحقيق التداول على الحكم بصناديق الاقتراع وليس بطريق آخر، لأن حزب التجمع الوطني للأحرار لم يقد حكومة منذ أكثر من أربعة عقود، وهو ما يخدم الديمقراطية التي لم تعد ناشئة في المغرب بل أثبتت أنها وصلت مرحلة مهمة من النضج والرسوخ، وعلى الأحزاب المساهمة في هذا الترسيخ بتجنب اللغة الخشبية القديمة التي تضخم خروقات معزولة محاولة تصويرها كحالة عامة وأسلوب ممنهج، كما على بعض الأحزاب الاعتراف بالنتيجة بروح رياضية إن كانت تؤمن حقا بالديمقراطية واحترام إرادة الشعب. وربح المغرب عاشرا رهان مصالحة المواطنين مع صندوق الاقتراع، وهو ما يؤكد أن المغاربة يتابعون بشكل جيد ما يجري في محيطهم ويؤمنون بالاستثناء المغربي ولا يريدون إعادة تجارب مجاورة للتخلص من فاعل سياسي لم يتجاوب مع انتظاراتهم، بل فضلوا الإقبال على المشاركة الواعية في الانتخابات لوضع حد لتجربة امتدت لولايتين. وفي نجاح هذا الرهان رسالة لدعاة المقاطعة للتحلي ببعض الانسجام السياسي ومعرفة حجمهم الحقيقي والتمييز بين المقاطعة والعزوف ورسالة لهم للالتزام بالحد الأدنى من الأخلاق السياسية وتفادي الركوب على أعداد العازفين عن المشاركة في الانتخاب واحتسابها في خانة المقاطعين المحدودي العدد حسب المؤشرات المنطقية لاحتساب كتلتهم كما أوضحت بتفصيل في البوح السابق. وتبقى الرسالة الأهم من هذه الانتخابات هي تلك التي أوصلها المشاركون فيها للعازفين عنها والتي مفادها أن صوت المواطن مهم ومؤثر في النتائج ووحده المشارك قادر على صناعة المستقبل لأنه يختار بشكل طوعي وواع من يدبر شؤونه لولاية قادمة.
    بينت هذه الانتخابات أن النتائج تكون حقيقية تعكس حقيقة الحضور في المجتمع كلما ارتفعت نسبة المشاركة في الاقتراع لأن ارتفاع هذه النسبة يقطع الطريق على من ينتعش بعشيرته وجماعته وأنصاره فقط، ولأن مشاركة واسعة للمواطنين تمنح للنتائج مصداقية تمثيلية أكبر.
    لقد أكد المغرب بهذا النجاح السياسي والتدبيري لهذا الاستحقاق نجاحه في تدبير جائحة كورونا، لتضاف إلى نجاحه في حملة التلقيح، وقدرته على تحويلها إلى فرصة لتحقيق الالتحام حول الوطن ومؤسسات الدولة وخياراتها، ولذلك وضحت هذه المشاركة الواسعة بأن المغاربة حاضرين في المناسبات الحاسمة. إن نجاح المغرب في تنظيم هذه الانتخابات دليل آخر على التفوق المغربي في التحكم في جائحة كورونا مما جعله يحتوي بشكل ناجح الكثير من تداعياتها السلبية سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو الحقوقي.
    هل خرجت النتائج المعلنة عن المنطق؟ هل كانت مفاجئة أم صادمة أم عادية؟  وهل يمكن القول أن كل هذه النعوت صحيحة ولكنها فقط تختلف من فئة إلى أخرى؟
    لقد كانت هزيمة العدالة والتنمية متوقعة، ولكن طبيعة هذه الهزيمة ودرجتها هي المفاجئة. كانت الهزيمة عادية بالنسبة للمغاربة، ولكنها بالمقابل كانت صاعقة وصادمة لأنصار العدالة والتنمية لأنهم كانوا مخدرين بوهم أنهم وحدهم الموجودين في الساحة والباقي مجرد دكاكين انتخابية وأنه وحدهم “مضوين البلاد” وقد كان ربما ضروريا أن يستفيقوا على وقع انقطاع وهج مصباحهم ليروا أن البلاد مضوية بهم أو بدونهم لأن لها رجالاتها ونساؤها الساهرين على دوامها. هزيمة العدالة والتنمية كانت منطقية لأن التجارب الانتخابية المغربية تثبت أن أقصى ما يفوز به كل حزب، في عز قوته، هو ولايتين متتاليتين لأن السلوك الانتخابي للمغاربة يحب التغيير بعد إعطاء الفرصة “للحزب الكبير” مرتين، وقد حصل هذا سابقا مع الاتحاد الاشتراكي في تجربتي 1997 و2002 وكانت هزيمته في 2007. على هذا المستوى، لا يمكن القول إلا أن المنطق ساد بشكل كبير.
    تتمثل المفاجأة إذن في حجم الهزيمة التي مني بها حزب العدالة والتنمية. والحقيقة أن هذه رسالة للحزب وقادته وقواعده وجمهور الباحثين لإعادة النظر في أدوات تحليلهم والاقتراب أكثر من المغاربة لفهم طريقة تفكيرهم وتفاعلهم وردود أفعالهم. لا يمكن تسمية ما حصل يوم الأربعاء تصويتا عقابيا فقط لأنه تجاوز ذلك إلى التصويت الانتقامي ضد العدالة والتنمية الذي باع الوهم للمغاربة وسوق الوعود الكبيرة ولم يحقق منها شيئا بل أجهز على بعض مكتسباتهم التي لم ينتخبه المغاربة على أساسها وأهمها طريقة إصلاح نظام التقاعد وصندوق المقاصة والعمل بنظام التعاقد. للأسف، لم يف العدالة والتنمية بوعوده للفئات التي صوتت لصالحه، بل كانت هذه الفئات أول المستهدفين سلبا بقراراته. وافتقد الحزب لنجاعة التدبير والحلول الإبداعية للملفات الحارقة واكتفى بالحلول التي كان من ضحاياها الطبقة الوسطى والفقيرة أساسا. ولذلك يصدق عليه القول بأنه الحزب الذي خدم مصالح من لم يصوت عليه وخذل الفئات التي صوتت لصالحه.
    أشرت هذه الانتخابات ونتائجها على نهاية مرحلة وسياق وخطاب. انتهى سياق ومرحلة ما سمي ب”الربيع العربي” وما ترتب عنه من أولوية الحفاظ على الاستقرار وكيان الدولة والتصويت على أساس سياسوي للتيارات غير المجربة من قبل أو التي كانت تقدم نفسها ضحية المرحلة السابقة، وكان لجائحة كورونا نصيب وافر في ذلك لأنها كانت إيذانا بالدخول في سياق ومرحلة جديدين بأولويات مخالفة تحتل فيها الصدارة القضايا التنموية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما فشلت فيه العدالة والتنمية بامتياز. نحن على أبواب لحظة إفلاس الخطاب الطهراني والأخلاقوي إن كان يوظف فقط كستار لحجب الفشل التدبيري وتبرير غياب النجاعة، وقد عبر المغاربة عن الحاجة إلى قوة تدبيرية وأفكار ناجعة تحقق العدالة الاجتماعية والمجالية وتسد الفوارق وتقلص العزلة التي تعاني منها مناطق كثيرة. لم يعد في المؤسسات مكانا لمن يقتصر على التوصيف ولعن الفساد دون أن يقدم وصفة ويتخذ خطوات للقضاء عليه لأن المغاربة انتخبوا ممثليهم لتقديم حلول وليس لعن الظلام فقط.
    تتعدد أسباب هزيمة العدالة والتنمية وتتشعب، والمغاربة عاقبوه دون غيره من مكونات الائتلاف الحكومي وفي هذا درس بليغ للحزب وقادته. عاقب المغاربة
    العدالة والتنمية لعدم وفائه بوعوده ولفشله في القطاعات التي دبرها ولمحدودية قدراته التدبيرية ولخطابه المبخس لانتظارات المغاربة، وبالمقابل كافأ بعض مكونات الائتلاف الحكومي التي نجحت، بنسبة من النسب أو لنقل لم تفشل على الأقل، في تدبير القطاعات التي دبرتها. وفي هذا التصويت الانتقائي بهذه الطريقة مؤشر على منسوب الذكاء لدى المغاربة وقدرتهم على التمييز بين الأحزاب وقدراتها. يجب مستقبلا الانتباه إلى أن زمن الاختباء وراء الحكومة الائتلافية لتبرير الفشل قد ولى إلى غير رجعة، وما حدث من مكافأة البعض ومعاقبة البعض الآخر فرصة للأحزاب لتتذكر تجربة الاتحاد الاشتراكي الذي دفع حينها وحده نتيجة تدبيره لولايتين وكافأ بالمقابل حليفه الحكومي حزب الاستقلال سنة 2007 بتبويئه الصدارة. لاحظوا أنه نفس المنطق وأن التاريخ يعيد نفسه وأن لا شيء غير عادي حدث مع العدالة والتنمية، وسيرتكب العدالة والتنمية خطأ آخر إن هو تمادى في تقمص دور الضحية والمستهدف لأنه يستعدي حينها المغاربة ويستبلدهم وهو ما يزيد من عزلته مجتمعيا.
    دق المغاربة ناقوس الخطر للعدالة والتنمية في مناسبات سابقة، تمثلت في أكثر من انتخابات جزئية وفي انتخابات ممثلي المأجورين وفي انتخابات الغرف المهنية ولكن الحزب للأسف لم يتلق الرسالة المشفرة لأنه لم يحسن قراءة ما بين وما وراء سطورها وكان بحاجة إلى رجة قوية تعيده إلى حقيقته ووزنه الطبيعي الذي تناساه بنشوة الدوباج الانتخابي الناتج عن حالة العزوف التي شابت الانتخابات السابقة. وكم نتمنى أن تكون هذه فرصة للحزب لمراجعة خياراته وخطابه ومنهجية تدبيره وتفعيل الحوار الداخلي الذي بدأه ولم يكمله ولم يُفعل ما ترتب عن بعض جولاته.
    لكل ما سبق، لم تكن هزيمة العدالة والتنمية مفاجئة لأسباب موضوعية كانت واضحة لكل متابع، ولكن المفاجئ كان هو حجم هذه الهزيمة والتي كان سببها الأساسي عوامل ذاتية كثيرة.
    يتمثل السبب الأول في فقدان العدالة والتنمية الحاضنة المجتمعية الدعوية التي شكلت ذراعه الانتخابي الذي يشتغل ميدانيا بخطاب دعوي وأخلاقي وبطريقة القرب والديمومة مع جمهور من المغاربة، وخاصة المحافظين. في هذه الانتخابات كان واضحا فتور كبير في تعاطي حركة التوحيد والإصلاح مع الانتخابات ومع الدعاية للعدالة والتنمية لدرجة لم تصدر الحركة بلاغا رسميا يدعو لمساندة الحزب والتصويت لمرشحيه. هنا يلزم التفكير جيدا في عنصر القوة هذا الذي بني عليه الحزب والذي يبدو غريبا عن العمل الحزبي كما هو متعارف عليه عالميا، وقد كان الحزب أول المكتوين بناره، فقد كانت قواعد الحركة عازفة عن التعبئة للحزب ولم يكن “عندهم وجه” لملاقاة المغرب في الشارع والدفاع عن حصيلة الحزب التي كانت كارثية في الموضوعات الدعوية والدينية التي ظلت الحركة تضعها ضمن أولويات ومجالات عملها واهتمامها. يمكن، برصد بسيط لخطاب الحركة خلال الحملة الانتخابية، ملاحظة أنها كانت تركز على رهان المشاركة ودعوة الناس للمشاركة أكثر من الدعوة للعدالة والتنمية. وحتى في هذا الرهان فشلت الحركة والحزب معا في جر المغاربة للمشاركة في الانتخابات ودليل ذلك هو نسبة المشاركة في المدن والدوائر التي تعتبر قلاعا لهما مثل المدن الكبرى التي شهدت نسبة مشاركة ضعيفة مقارنة مع غيرها. على هذا المستوى، نستطيع الجزم بأن العدالة والتنمية لم يشكل قيمة مضافة في المشهد الانتخابي المغربي لأنه استفاد منه أكثر مما أفاده.
    ويتمثل السبب الذاتي الثاني في فقدان الحزب لمصداقيته بتناقض خطابه والتنكر لوعوده، وقد شكل ذلك صدمة للمغاربة الذين لم يتوقعوا هذا التنكر ظنا منهم أن الخلفية الدينية والأخلاقية عاصم للفاعل السياسي من الزلل، ولكن سرعان ما اتضح أن حسابات السياسة مخالفة لحسابات الدعوة ومنطق السياسة مختلف كثيرا عن منطق الدعوة. ويكفي في هذا الباب رصد حالة التناقض التي طبعت ممارسة الحزب في قضايا التطبيع و”مشروع قانون الكيف” وقانون الإطار حول التعليم وقضية الفرنسة والتعريب. فلا يمكن للمواطن العادي الثقة في من تنكر لخطابه ووعوده ومبادئه. وإذا أضفنا إلى ذلك الانتقائية السياسية لقادته وتوظيف نفس الوقائع بشكل متناقض حسب كل سياق على حدة فإن النتيجة الحتمية ستكون عقابا جماعيا للحزب وقادته، وخير مثال على ذلك موقف الحزب وبنكيران من أخنوش الذي كان “راجل مزيان وولد ناس ويمكن أن يكون قيمة مضافة بحكم أنه رجل أعمال” في البداية ولكن سرعان ما أصبح هو الخطر على المغرب ونجاحُه يعني قيام ثورة و20 فبراير جديدة. خطاب الابتزاز هذا يمجه المغاربة وخطاب المزايدة على البلاد وادعاء إنقاذها يكرهه المغاربة الذين يعرفون من هو حامي البلاد والساهر على دوامها ويعتبرون كل مزايدة بهذا الأمر لعب بالنار ومقامرة خاسرة. للأسف، لم يستفد العدالة والتنمية وقادته من هذا الدرس مبكرا وكان لزاما التعرض لهذه الصدمة ليمكن لهم ربما الاستيقاظ من هذا الوهم. للمغرب حماته من جنود الخفاء الذين لا يحبون الظهور والتقاط الصور ولا ينتشون بحجم المشاهدات في اللايفات والجيمات على مواقع التواصل الاجتماعي وهم فريق متكامل يشتغل إلى جانب الملك الحامي والساهر والضامن لوحدة البلاد ومصالح المغاربة.
    ويتمثل السبب الذاتي الثالث في حالة الانقسام والتشتت غير المسبوقة التي خاض بها الحزب هذه الانتخابات. لا يمكن التغاضي عن نسبة الرحل من الحزب لأحزاب أخرى، ولا يمكن إنكار حالة العزوف التي طبعت سلوك مرشحين باسم الحزب من أبنائه عن خوض الحملة الانتخابية حيث شوهد مرشحون عازفون عن التعبئة للحزب واكتفوا بوضع صورهم في لائحة المرشحين وكأن الأمر لا يعدو امتثالا لقرار حزبي بحكم الطابع الانضباطي الذي ما زال يحكم بعض القيادات الوفية للحزب، كما لا يمكن إنكار تردد عدد من القيادات في دعوة المغاربة للتصويت للحزب بما فيهم بنكيران الذي كان لافتا دعوته المغاربة التصويت على الحزب الذي يرونه الأصلح دون تسمية العدالة والتنمية كما هي عادته. كما كان لافتا تواري بعض رموز الحزب ومؤسسيه إلى الوراء مثل المصطفى الرميد كتعبير عن حالة عدم رضى عن طريقة تدبير ملف الانتخابات ويتضح اليوم أن هذا الخيار كان من شأنه امتصاص هذه الصدمة والتخفيف من وقعها على قواعد الحزب أساسا. والخطير هو الطريقة التي حاول بها الحزب استدراك هذا الفتور حيث لجأ إلى خدمات بعض من جمدوا عضويتهم من الحزب مثل المقرئ أبو زيد وقد كان لذلك وقع الصدمة على أعضاء الحزب قبل المغاربة. كيف لمن قال في الحزب ما لم يقله مالك في الخمر وجمد عضويته داخل مؤسساته أن يترشح في آخر لحظة باسمه هاربا من الترشح في الدائرة التي اعتاد النجاح فيها؟ أهذا هو الحزب الذي كان يتحدث عن تخليق السياسة؟ وجدير بالذكر أن تغيير الدائرة الانتخابية كان أقرب إلى الحالة العادية في ترشيحات الحزب، وقد كان لذلك وقع نفسي سلبي على المغاربة الذين فهموا منه تهرب منتخبي الحزب من المسؤولية والخضوع للمحاسبة فكان التصويت الانتقامي عاما عوض أن يقتصر على دوائر بعينها. هرب العثماني من المحمدية للترشح في الرباط فكانت الانتكاسة، وهرب العمراني من الرباط ليترشح في تمارة وهرب العماري من الحي المحمدي وهرب المقرئ من الجديدة وهرب الشوباني… هذه بعض من نماذج الاعتراف بالفشل والخوف من ساعة الحساب، رغم أن قائمة الهاربين طويلة.
    الخلاصة إذن أن هزيمة العدالة والتنمية كانت مبكرة والحزب هزم نفسه بنفسه قبل أن يهزمه حزب آخر. أما المغاربة فلم يهزموه فقط ولكنهم عاقبوه وانتقموا منه وقدموه مثالا لغيره من الأحزاب مستقبلا كما فعلوا مع غيره سابقا. وهنا كذلك احترم المنطق الجاري به العمل في الانتخابات المغربية، ونتذكر جميعا مصير الاتحاد الاشتراكي بعد 2007 حيث لم يعد من أحزاب الكوكبة الأولى الأربعة. ولا داعي أن يشكك العدالة والتنمية مرة أخرى في النتائج ولن ينفعه خطاب المظلومية.
    لم تقتصر هزيمة العدالة والتنمية على الخسارة الانتخابية فهذه من مقتضيات الديمقراطية وما وضعت الانتخابات إلا لذلك لأنها محطة محاسبة تكافئ البعض وتعاقب البعض الآخر، ولكن الصدمة كانت في الهزيمة الرمزية التي تمثلت في تهاوي القلاع الانتخابية للحزب بشكل صاعق ويمكن في هذا الصدد مقارنة نتائج الحزب بين 2016 و2021 في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة ومكناس ومراكش. هل يمكن للحزب تقديم تفسير موضوعي لنسبة التناقص التي حصلت في عدد المصوتين له؟ وتمثلت كذلك في سقوط قادة الصف الأول من الحزب مثل العثماني والخلفي وبسيمة الحقاوي وغيرهم.
    ويضاف إلى الهزيمة الرمزية هزيمة سياسية تعني نهاية خطاب الحزب الذي لم يتخلص من جذوره الدعوية ليمارس السياسة بما تقتضيه من خطاب وتعايش ونسبية، وتعني نهاية اختيارات الحزب التي لم تتخلص بعد من مرجعيته الأخلاقية لفائدة النجاعة التدبيرية. للأسف، لم يستطع الحزب، بعد أزيد من أربعة عقود من الوجود في المؤسسات، تكوين عدد كاف من أطر الدولة التي تفكر بمنطق الدولة ومصالح الدولة بعيدا عن الانتصار لمنطق العشيرة ومصلحة الجماعة، وطبع سلوكه التردد في كل الملفات الحاسمة حتى كان هو رمز البلوكاج الحكومي رغم أنه الحزب القائد للحكومة، والسبب أنه كان حزبا قلبه مع المعارضة ومصالحه مع الحكومة. وقد حان الوقت للقطع مع هذه الازدواجية. ويكفي مثالا على ضعف أطر الحزب أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها ضد القاسم الانتخابي وكأنه المستهدف منه ولكن النتائج بينت أنه كان أكبر مستفيد منه، ولولا القاسم الانتخابي لما حصل الحزب على 13 مقعدا ولما أنقذ ماء الوجه في بعض معاقله الانتخابية التي كانت أحزاب أخرى أكبر متضرر من هذا القاسم الانتخابي.
    حجم الهزيمة التي مني بها الحزب تتطلب أساسا مراجعة منهجية تدبير الحزب واختياراته وأطروحته وخطابه وطريقة تدبير علاقاته ونظرته لباقي شركائه في الوطن. هذا هو المؤشر على أنه استفاد من الدرس جيدا. وليس عيبا أن يبرز الحزب التناقضات التي تنخره ومن تمام الوضوح أن يبرز أن تدبيره تتقاطعه تيارات ممكن أن تمأسس وجودها إن هي أرادت تفادي تصدع الحزب وانشقاقه. وحتى إن حصل ذلك فهو طبيعي وتحصيل حاصل. وقد حدث لحزب القوات الشعبية أثر من ذلك بعد تجربتين حكوميتين.
    قلت في بوح سابق أن الانتخابات لحظة ومن الخطأ الاستغراق فيها أكثر من اللازم، ورسالة المغاربة كانت واضحة هذه المرة أن ما يهمهم هو النجاعة والمردودية والانسجام الحكومي. يريد المغاربة حكومة تحكم بفعالية ونجاعة وسرعة ويخضع تشكيلها للمنطق وتنسجم تشكيلتها مع نتائج التصويت. هل ستحترم الأحزاب هذا المنطق؟ كيف ستكون الحكومة؟ بل كيف ينبغي أن تكون لتحترم هذا المنطق؟
    قد نخصص لذلك بوحا مستقلا.
    في الانتخابات ينهزم البعض وينتصر البعض ولكن الانتخابات الناجحة هي التي ينتصر فيها الوطن، وقد أضاف المغرب نصرا آخر إلى انتصارات كثيرة مما يؤكد أن هذا زمن الانتصارات. تحية لكل من كان وراء هذا النجاح من جنود الخفاء الذين سهروا على إنجاح هذا الاستحقاق ليوضحوا أن المغرب رائد في محيطه وأن تجربته أولى بالاتباع لأنها الأضمن والأكثر أمانا ونجاعة.
    نتائج الانتخابات شكلت كذلك صدمة لكل الطوابرية الذين كانوا ينتظرون تدني نسبة المشاركة فإذا بها تتجاوز نصف المسجلين، كانوا ينتظرون خريطة سياسية تزكي منطق “جوج وجوه” في التدبير فإذا بها خريطة تنتصر لمنطق الوضوح والانتماء الصافي لقضايا المغرب والمغاربة، لقد أصيبوا بالخرس الذي أصاب إعلام الجزائر بعد إشادة الإعلام الدولي بنجاح استحقاق الانتخابات العامة في المغرب، لكن أحدهم الذي لا يفقه شيئا في الواقع السياسي المغربي وميكانيزماته يحاول أن يقدم لنا قراءة مهزوزة يتوهم فيها انعزالا شعبيا للمؤسسة المركزية في البلاد، وكأن الملكية تفتقد للحاضنة الشعبية وكأنها فقدت في العدالة والتنمية صمام الأمان الذي تمتعت به في العشر سنوات الأخيرة، “دادة الفهيم” الذي يدعي أنه يفهم في الشؤون الاقتصادية لم يستوعب أن العدالة والتنمية وصل إلى الحكومة بقرار شعبي وخرج من الحكومة والتدبير كذلك بقرار شعبي لأن عشر سنوات كانت كافية لتقييم تدبير الحزب للسياسة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وعدم قدرته على تنفيذ التزاماته أمام الناخبين.
    نلتقي في بوح قادم.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الشرطة القضائية بتنسيق مع الديستي توقف شقيقين يشكلان موضوع مذكرات بحث